"لا أعرف كيف مرت تلك السنوات عليّ، أشعر أنّ قطعا كاملة منها سقطت خارج ذاكرتي من دون أن أنتبه: كأنها وقعت في الضباب الكثيف، وأنا بينما أسير الى أمام وأحاول أن ألف وأرى أين وقعت، أنا بينما أحاول أن أظلّ موجودًا، فقدت تلك القطع، ولعل هذا هو كل ما أقدر عليه. الان اذا سألتني ما الحقيقي وما المزوّر من ذكرياتي، أشعر بالخوف: أخاف الاّ أميّز، أخاف أن أضيع بين شخصين". (من رواية الاعترافات، صفحة 99)
الاعترافات (2009) لربيع جابر، رواية أخرى عن الحرب الأهلية في لبنان، ولكنها أيضا نص عن الذكريات. عن العيش مع الذكريات وعدمهم وذكريات الاخرين ونسيانهم. يحاور ربيع من سميّ بمارون والذي يسرد علينا ذكرياته فقط لان ربيع سأله عنهم، فهو. - لم يعد يكترث. أحقا لم يعد يكترث؟ هل حقا يمكن أن تصبح ذكرياتنا مفصولة عنا؟ يسرد مارون قصته وفق منطق الذكريات، فهي ترتبط الواحدة بالأخرى بطرق خاصة بها، أحيانا حسب المكان وأحيانا حسب الرائحة أو الطعمة وفي أحيانا أخرى السبب ليس واضح، ولكن هناك منطق ما، نفهمه دون معرفة السبب. يردد مارون التشكيك بوصفه للأمور، فهو ليس متأكد "ما الحقيقي وما المزوّر" ولكنه يتعلم أن يتقبل الضباب الكثيف. ولعل هذه احدى الأوجه المربكة والمزعجة في شخصية مارون، تقبله لان تكون الذكريات قصص ليست أكيدة، وليست قصته هو ووجعه هو. لكن قد يكون هذا التقبل طريقته الوحيدة لأن يخلّص نفسه وأن "يظل موجود".
تشابكت قرائتي للرواية مع ما كتبه الصديق القديم والتر بنجامين عن الذكريات والحفر*. في احدى نصوصه والتي نشرت بعد موته، يدعي بنجامين أنه كما "وضّحت اللغة فان الذاكرة ليست أداة لاستكشاف الماضي، وإنما هي وسيط. انها الوسيط الذي يتمتع بالخبرة ، تماماً مثل الأرض التي تدفن فيها المدن القديمة". يشبّه بنجامين النظر في الذكريات كالبحث والحفر في طبقات الأرض، ويستنتج أن: "الرجل الذي يقوم فقط بجرد استنتاجاته [من الحفر]، بينما يفشل في تحديد الموقع الدقيق لمكان وجود الكنوز القديمة في أرضنا اليوم، يخدع نفسه بأثمن جائزة تخصه. أي بخصوص الذكريات الأصليّة، أهم من أن يبلّغ الباحث عن وجودهم، أن يقوم بتحديد مكانتهم، وعلى وجه التحديد، الموقع الذي حاز عليهم فيه". أما بخصوص ما تقدمه لنا "الذاكرة الحقيقيّة"، يقول بأنها: "تسفر عن صورة الشخص الذي يتذكر، بنفس الطريقة التي لا يطلعنا بها التقرير الأثري الجيد فقط عن الطبقات التي نشأت فيها النتائج، بل إنه يقدم أيضًا تقريرًا حول الطبقات التي كان لا بد في البداية خرقها."
قد تكون الاستنتاجات وتحديد مكانة ذكريات مارون في أرض الحاضر دور القارئ. أما في واقعنا اليوم، ذات الايقاع العصبي والسريع، قد تكون الرواية أيضا تمرين أو تجربة تعرض أمامنا لخوض الحفر في الذاكرة الذاتيّة والجماعيّة، لنحدد خريطة الذكريات والتجارب، فهم منطقها والطبقات الكثيرة التي لا بد من أن نخترقها لنصل اليها. ولعلّها تبدد الضباب بعض الشيء.
*Benjamin, W. (1996). Selected Writings. Vol. 2. Eds. Marcus Bullock and Michael W. Jennings. Cambridge, Mass: Belknap P, 2003.