13‏/11‏/2016

انهما الحب والقمامة


بعد قراءة "لا قديسون ولا ملائكة" للكاتب التشيكي ايفان كليما قبل عامين، قرأت الأسبوع روايته "حب وقمامة"  ذات الأحداث الأقل درامية والسرد الطويل حول تفاصيل مأزق الشخصية الرئيسية، والتي لا تقل جمالا عن الرواية الاولى. تتناول الرواية "حب وقمامة" حياة ذات ماضي حافل بالمآسي التاريخية الكبرى، وحاضر حافل بمآسي أكثر متعارف عليها: الموت العادي، عمل لا يمت بالبطل بصلة وحب مستحيل. ترافق هذه الحياة اهتمام الشخصية الرئيسيّة بمصير القمامة ومجازة النظافة، بكتابات وحياة الكاتب كافكا وبماذا يحل بالروح بعد فناء الجسد. لعل هذه الاهتمامات ما يميز البطل عن الباقي وما يبقيه "فردا" حيا، الا انه ورغم ماضيه واهتماماته لا ينجح بالفرار من مآسي العالم الحديث - الخوف من الوحدة، رقابة السلطة، الشعور بالعجز وانهيار العلاقات الشخصية. بينما يبدو وكأنه خامل ولديه الخيار بالنجو وانقاذ من حوله، كما كانت تقول له حبيبته - الا ينسى روحها، فهي عصفور يمسكه في يديه، ليس هناك حقا خيارات له لا تكمن خسارة روحه فيبقى عليه اختيار احدى الوقائع السوداء.
للشخصية الرئيسية دورين في ان واحد، من ناحية فالرجل ليس سوى متفرج على العالم، ناقد للصحافة والمجتمع الحديث وللشخصيات القلقة من حوله وفي ذات الاوان فهو متورط بتفكيره وحبه. فبينما في طفولته، قرب غرف الغاز، نجح من جعل الكتابة تضاهي ضوء الحرية، يفشل في حاضره أن يجد أي بقعة أمان بعيدة عن الواقع أو أمل بواقع اخر. من حيث الكتابة يقدم الكاتب وصف رومانسي لحياة الفقراء والمساكين، وفي ذات الاوان يرسم صورة واقعية سوداوية للعالم والمجتمع الحديث. كما ويسرد الكاتب الأحداث من خلال التلاعب في الزمن والزمانية، فيتقلب الزمن بين الماضي والحاضر بكثرة ويتغير نمط الزمانية المعروض وفقا لمزاج الاحداث. حيث ان هناك الزمانية المتعارف عليها، والتي عبارة عن حاضر يتراكم دون خلق أي توتر أو قيمة وهناك الزمانية التاريخية والتي تجعل حاضر البطل نتيجة لتراكمات وقرارات من الماضي، مما يجعل من شخصيته أسيرة للذكريات ولحياة مضت. وفقا لهايدجر، نتيجة الزمانية الاولى قد تكون الضجر، وأما نتيجة الزمانية الثانية، وفقا لدوليز فهي الاكتئاب وعدم القدرة على "رسم الوعود" للمستقبل.
رغم كل هذا، هناك صيرورة علاجيّة في الرواية، نهاية ما، وداع يكمن استقرار واقعي، تقبل لعدم السعادة. لعل كليما يفشي لنا أنه علينا أن نرى القمامة وبذات الأوان أن نعي انها لن تفنى، ولعله نجح بتطبيق فكرة كافكا والتي قدستها الشخصية الرئيسية في الرواية: "نحتاج كتابا ... تجعلنا نحس بشيء يشبه الانتحار. يجب أن يكون الكتاب مثل فأس تضرب المتجمد في داخلنا".

11‏/04‏/2016

الحزن الباشق

 


الباشق \ طه محمد علي
نيسان 1984
 
 
اذا استطعت يا حزن 
يوما
ان اتحرر منك
فاني ساشعر
حتما،
بغبطة المنتحر
وهو يتحرر من تبعاتة
وافترض
انني انطلقت منك
فجأة،
انطلاق اسراب الصدى
من حقولنا وجماجمنا
فما الذي سيحدث؟
ما الذي يحدث
لو تمكنت من التخلي عنك
الان؟
هبني خرجت منك
في هذه اللحظة
خروج السكير
من الحانة
فما الذي سأخسره؟
يكفيني انني لن احزن
بعد:
لن أحزن حين يأتي الشتاء
ولن أحزن حين يذهب الشتاء
لن  أحزن عندما يجيء الصيف
ولن أحزن عندما يرحل الصيف
لن يحزنني تشرد الأنهر
ولن تحزنني غربة الطيور.
حتى الأزهار
نفسها
لن تثير بي
لا الوانا مبهمة من الأسى
ولا صنوفا غامضة من الحزن
 
ايتها الطيور
ايتها الأزهار
وانت يا نهر
بعد ان يتخلى حزني عنكم
لن تكون الأنهر انهرا
ولا الطيورا طيورا
حتى الأزهار
ذاتها
ستكف عن ان تكون ازهارا
سيمسي النهر
دون حزني
مجرد ماء
والزهر سيمسي
محض نبت
دون أساي
الطير بعدي
سيدركها الليل
وتموت
والطيور التي ستبقى
بعد حنيني
وخلف وحدتي:
بوما هنا،
واغربة هناك،
هي ليست طيورا
ولا هي عصافير
إذ...ما الطير
بلا ذكرياتي؟
ما الطير بلا شوقي
وما الصداح؟
ما الطير خارج حرقتي؟
العصافير بلا حزني
غابة مناقير
وأجمة مخالب
العصافير بلا حزني
كتل دموية
لا يظلها ريش
إلا
لتلاحقها الافاعي
ولا يكسوها زغب
هش، رقيق
كغلالة الرمال
إلا
لا غواء البزاة
واجتذاب الصيادين
 
ومع ذلك
فالذي يتراءى لي
انني فعلا
سأتخلص منك
سأتخلص عنك اخيرا
وارتاح
أتخلى عنك
لأول مرة.
ساغادرك
كما يغادر القرصان قاربه
لكنني لن أدفنك
في رمال الشاطئ
كما يدفن لصوص البحر
نقودهم واقراطهم
لتنهبك الثعالب
فانا لن أعود اليك
 
ولكن
بربك ايها الحزن
قبل ان نفترق
لي عندك رجاء
قبل ان ترحل
كمن رحلوا
لي لديك طلب
فانا أخشى الا ارك
بعد ان أودعك
انا في الوداع 
أعجوبة
انا لم اودع شيئا
من اشياء الدنيا
الا فقدته
الى الأبد
ولم امدد يدي
بالوداع لمخلوق
إلا تمنيت
عبثا
الا اموت قبل ان أراه
 
أريدك يا حزن
ان تكشف لي عن امر
يحيرني
لن اسألك
كيف قبض لك 
ان تذبحني
على هذا النحو
لن اسألك
ما الغاية
من جعلي هكذا:
انهار كالممالك
واتصدع كجدران البراكين
لن اطلب اليك
ان تفسر لي هدفك
من جعلي هكذا
اتبدد كالسحب
واتساقط
كملامح النسور
أمور كهذه
لا شك تعنيني
لكنني أدمنتها
فلأدعها الان تغفو
مثلما يغفو الخوف
احيانا
وكما تغفو البذور
 
أنا ايضا
لن اسألك
من اين جئت
ولا كيف تهيأت لي،
او اين وجهتك
فقد تعقبتك
مرارا
وانت غافل
كقصاص بدوي
تتبعت خطاك
فقدتني دوما
الى هناك
الى المكان نفسه
الى الزمان ذاته
والى الينابيع إياها

أنا حتى
لن اسألك
متى
اين
او كيف بدأت
تستقر على راحتي
هكذا
باشقا اليفا
ذاكرته مموجة
كبكاء البحارة،
جناحاه
في الليل
خنجران ازرقانو
عيناه حبيبان
وجفناه زنادان اخضران
يتوسلان

ما يحيرني 
يا حزني
انك أكبر مني
اعمق من يقظتي
واكثر بعدا
من كل احلامي
بصماتك اشد تعقيدا
من هويتي
ووجهك صحاري
فضفاضة
يضيق بها الدرب
وتلفظها المواني
ما يحيرني
انك اكبر من يومي
اكبر من امسي
واكبر من غدي

في طفولتي
يا حزن
رأيت عصفورا
تطارده افعى
العصفور كان فعيدا
خلفه السرب
والخوف الذي شاهدته
يتفجر في عينيه
وهو يحاول الفرار،
لا يمكنني ان انساه:
غابات  واقمار وبحيرات،
مناف،  جداول،
ومروج لا يحدها البصر
كلها كانت
تتكدس على عنقه وتنهار
بسرعة البرق
من شدة الهلع
مذابح ومدن
كانت تتجمع في نظراته
بسرعة مذهلة
وهناك تحترق رعبا
وتتناثر على ريشه
وصوته وقدميه
هلع ذاك العصفور
لا يمكن ان يكون
هلعه لوحده
خوف ذاك العصفور
لا يمكن ان يكون
خوف عصفور واحد
يا حزن،
لا يفهم الا ان يكون
خوف السرب
بأكمله

يحيرني يا حزن
انك في معظم الاحيان
تختلط علي
فلا اعرفك
فلكم انكرتك
لكم تنازعتني فيك الشكوك
ساعة تصطف الامسيات
والطيور والاشجار
في طوابير بعيدة
تحاذي الأفق
كل ينتظر حظه منك
انتظار المنكوبين للعون
ايام الكوارث
لكم انكرتك
وانا اتصفح اثرك
حائرا بك
مترددا بأممرك
اقلب بقايا عشك
كما تقلب بقايا المخطوطات
أأنت حزني الشخصي
أأنت حقا
حزن شخص واحد
أيعقل انك حزني لوحدي
وانا لا أفهك
الا ان تكون حزنا سريا
خبأه السرب عندي
أبمقدوري ان افارقك
وانا لا ادركك
الا ان تكون حزنا مطاردا
تتعقبه الحنش
وتتربص به الحراب
أأستطيع أن اتخلى عنك
وانا لا اعيك
الا ان تكون حزنا ممنوعا
اودعه الجيل لدي
أوصاني به
وأتمنني عليه

أغلب الظن
يا حزن
أنك لست حزني لوحدي
وما دمت حزني وحزنهم
فكيف يمكنني
أن اتصرف بك
لوحدي؟
(كيف يمكنني أن أتخلى عنك؟)

09‏/04‏/2016

سوزان

حطام امرأة من بقايا حركة الستينات الثورية ؛ مريضة . وجهها ناضج بشفاه حمراء عريضة وشهوانية، ويحمر من الخجل كبنت صغيرة .. لا أم ولا أب ولا أصدقاء . وكل ما تملكه دفتر رسم أبيض ترسم فيه دائماً طاووساً أزرق وتعيد دائماً نفس الرسمة. كانت جالسة هناك عندما نظرت الي بدقة وقالت: "انت تحيا في داخل رأسك". صدمتني دقة الجملة.
حسين البرغوثي