16‏/10‏/2014

عما حدث في نادي البلياردو

تطرح رواية "بيرة في نادي البلياردو" (1964) مرة أخرى أزمات النفس التي خلقتها الاستعمار. تنقسم شخصيات الرواية إلى أشخاص تعيش تحت التأثيرات الاستعماريّة، وتتمتع برفاهيّة الأغنياء وتعيش ثقافة أوروبيّة - أميركيّة كجزء من فكرة الرفاه من دون أن تطرح تساؤلات وبتقبّل تام. أما القسم الآخر فهي شخصيات تابعة لذات الفئة الطبقية، إنما تذوقت تفاحة المعرفة، فأصيبت بلعنة تحولها إلى شخصيات "واعية" ونقديّة نحو التصرفات المفهومة ضمناً لدى الأغنياء المصريين. 


كمصطفى سعيد في موسم الهجرة الى الشمال، يقوم الثلاثي الحائر - أدنا، فونت ورام بسفرة الاصطدام مع بلاد وثقافة الغزاة - بريطانيا. حيث أن فونت ورام كمصطفى سعيد أيضا مبهوران بالثقافة الأوروبية، ويؤمنان بأن "الحياة" كما تعملوا عنها في الأدب موجودة في أوروبا فحسب، ولكن في ذات الوقت يختبران بشاعة الاستعمار ومدى تعقيده. نتيجة للسفرة، تتفاقم لديهما التغيّرات وتتباين التناقضات، فرغم وعيهما السياسي، الطبقي والقومي، ما يزالان يعتبران بريطانيا على أنها أرض الخلاص. وتولد لديها "السوسة" اليساريّة التي تحفر التساؤلات حول المسؤولية الشخصيّة، وما دور الفرد فيما يحصل. الوعي السياسي هذا للثلاثي يرهن حياتهم الفرديّة للتخبطات السياسيّة، ليصبح النقاش السياسي ليس إلا نقاشاً نفسيّاً يحتاجه كل من الثلاثي ليعالج نفسه وليتكلم عن أموره الشخصيّة. "من هو المصري؟" نقاش أدنا وروام المستمر على مدى الرواية ليس فقط سؤالاً نظريّاً حول تأثيرات الاستعمار، بل سؤال يكشف النصف الرمادي المشكوك بهويته. فإن كان المصري هو الفلاح، كما تدعي أدنا، وهي مصريّة لأنها عاشت بين أفراد عائلة فلاحة، ولأنها أحبت فلاح، فمن يكون رام اذن؟ هل لأنه ولد في عائلة غنيّة ذات ثقافة أوروبيّة تسحب منه مصريته؟ ومرة أخرى، إن لم يكن مصريّاً فما هو؟


هذا النقاش القديم حول من هو المحلي في ظل الاستعمار دائرة مفرغة قد يعلق فيها الكاتب. في اللحظة التي يبدأ هذا النقاش بين الشخصيات يظهر ترقّب حول الخيار الذي سيختاره الروائي. فلدى الطيب صالح، يجن الراوي حرفيّاً من هذه الدوامة، حيث يدخل النهر ولا يعرف لأي ضفة عليه أن يتوجه - الشمال أم الجنوب. وبما يشبه قرار الراوي في "موسم الهجرة الى الشمال"، يستخلص رام أن الجنوب - مصر ليست الفلاحين والماضي فحسب، أن مصر جميلة وجديرة أيضاً بخصلها الأخرى المتأثرة من الغرب. وخلافاً عن الطيب صالح، يكشف وجيه غالي في الصفحات الأخيرة من الرواية ما قام به رام بعد هذه الخلاصة. فتتويج حياته كمصري لم تخلصه من روتينه ومشاكله، بل تحولت إلى مبرر ليتابع ما هو عليه من جنون مما يعرف ولا يعرف كيف يتصرف به، من عدم الجدوى بالتغيير، من القمار والكحول والتمتع برفاهيّة الأغنياء. 

بينما يختار رام أن يصب غضبه على الأغنياء والاستعمار عبر أقربائه، تختار أدنا الحل بالاندماج والمحاولات المتكررة بربط حياتها بالشيوعي والفلاح ورفضها رام من العائلة الغنيّة. إلا أن الشخصيتان تبقيان تحت مظلة الرفاهيّة، تبقى جنونها وتصرفاتها "تمرد عابر" كما سمته ديدي نخلة. فجنونهم لن يتفجر ولن يؤذيهم، إذ تفرض عليه الواسطة والنقود وسم "التمرد المراهق العابر". فبغض النظر حول مدى ارادة فونت بأن يكون العامل الفقير والبسيط، فثقافته وشخصيته لن تتيح له ان يكون الفقير في مخيلته ولو وصل لان يجوع يوما ما.


في النهاية كل من الشخصيات يختار ما أوصله إليه تخبطاته. فكل شخصية من الثلاثي تستمر بالعيش كما تعيش، إلا أنّه ما كان نتيجة ضياع يتحول إلى قرار. فالتخبطات تتحول إلى المكان المعتاد والمريح لكل منهم، ويختار الثلاثي أن يستمر فيه رغم انتقاد كل منهم لقرار الآخر: فونت يختار رغم تعلمه أن يكون "فقط عاملاً في البلياردو" الفقير ويرفض مواجهة رام بهذا القرار، أدنا تختار أن تستمر بإخلاصها للمساكين كطريقة خلاص من التشوه الاستعماري، وتختار الوحدة عن ارتباطها برام "الغني". أما "رام" فيتزوج ديدي "الغنيّة"، ليستمر نحو لعبة بوكر أخرى في "جروبي".    


المبنى الروائي للقصة والقفز بين التفاصيل والسياقات مقدم بطريقة سلسة جداً. مثال على ذلك هو بداية الفصل الخامس التي تكشف عن أسرار طقس ظفيرتي أدنا الخاص فيها وفي رام، ومن ثم الكشف عن سر زواجها "من إسرائيلي" ومن ثم أفكارها عن "من هو المصري" وأخيرا قرارها بأن عذابها هو الخلاص، هو مصر الجميلة، هو الحل السياسي الصحيح. الى جانب التسلسل، تتميز الرواية عن قصص اخرى حول اللقاء الكولونيالي بأنها رواية معاصرة، من حيث الاحداث المضبوطة والشخصيات المكبوتة - تتفجر فيها الاحداث والافكار والأحاسيس بهدوء تام.

 

في الواقع فزمن القصة لا يتعدى بضعة أيام، تلك التي تضمنت ذروة الأحداث. إلا أن وجيه غالي يكشف لنا جذور كل لحظة، حيث أن الشخصيات الرئيسيّة في القصة ليست يتيمة، بل تحمل كل منها تاريخ من الأحاسيس والأفكار تفسر تصرفاتها غير المنطقيّة، بما في ذلك قرار ديدي نخلة الغنيّة بالزواج من رام المعدوم. فتتمنطق تصرفات الشخصيات في سياق الدوامة الجماعيّة التي يعيشونها. في النهاية، شخصيات الرواية جميعهم مألوفة جداً، واقعية جداً، قريبة جدا من شخصيات حولنا، حتى اننا بطريقة ما نشاركهم بذات التخبطات، ذات الدمج الخانق والواعي بين الشخصي والسياسي. فهم نحن، نحن - قراء مثل هذه الروايات والمدونات. 


شخصيات الرواية لم تنتحر، حتى أنها قدمت تبريرات للجنون وجعلته أمراً مستحملاً، وحتى قابلاً للاستمرار. ولكن إن تناولنا الرواية في سياق العالم الحقيقي، فرام في الواقع انتحر، إلا أن انتحاره حدث بعد نهاية الرواية. إذ هناك ادعاء بأن الرواية شبه سيرة ذاتية للصحافي وجيه غالي، قبطي مصري، سافر إلى بريطانيا، وتماماً كرام عمل في مصانع برلين، وتمسك بآراء يسارية نقديّة نحو الحكم ووضع مصر بعد الثورة. أما عن موضوع إسرائيل، فرام يطرح تساؤلات حول العداء لإسرائيل (مغيّباً الصهيونية والنكبة، ومرتكزاً على اليهودية والهولوكوست). في الواقع الجدل الأساسي العام بخصوص غالي دار حول زيارة تطبيعية له قام بها إلى إسرائيل في تموز 1967. لكن بعيداً عن هذه الزيارة وعودة لهواجس رام حول تصرفاته، فرسالة غاوي الانتحاريّة كانت: "أظن أن الانتحار هو الشيء الأصيل الوحيد الذي فعلته في حياتي"*.

14‏/04‏/2014

#الحريه_لمجد

"القضية مش بس موضوع الأرض" كرر مجد هذه الجملة مرات عديدة في مقابلاته الصحفيّة حول موضوع اشتراكه في اسطول الحريّة لاختراق الحصار المفروض على غزة قبل عامين. للوهلة الاولى قد تبدو هذه المقولة مفهومة ضمنا، لكنها في الحقيقة بعيدة عن أن تكون كذلك أو حتى بشكل جزئي. حيث اخترق الاستعمار تفاصيل التفاصيل في حياتنا، نحن القابعين في أراضي فلسطين عام ١٩٤٨، فصار يهندس أحلامنا، طموحاتنا، تجاربنا، افكارنا، لغتنا وبرامجنا وحتى علاقاتنا الشخصية - أصبحت جميعها متأثرة بايقاع الاستعمار، قوانينه وسياساته.


الاستعمار الثقافي وأبعاده النفسيّة، ليست صدفة وحتى ليست نتيجة اخرى للاستعمار، بل هي سياسة مقصودة ومدروسة هنا في فلسطين، هدفها قمع شخصية المستعمَر؛ فرض تعريف وخطاب ما هو "طبيعي" وما هو "مستحيل"، فرض السيادة من خلال التصاريح، الموافقة- والرفض وتحديد طرق ومضامين التواصل، وغربلة الافكار والاخبار التي تصلنا ونعيشها.


ما قام به مجد كيال قبل بضعة أسابيع هو كسر احد هذه الحدود، حوّل حلمه وحلم الكثيرين لواقع - فسافر لبيروت. زيارة مجد لم تذكرنا كم قريبة هي بيروت من حيفا جغرافيا فحسب، هي بمثابة رحلة لادراك بيروت، لا كمستمعين ومشاهدين من خلال سماعة وشاشة بل من خلال التواجد فيها. ففي نصه الأخير "صورة تذكاريّة لصبيّة تُطعم أختها" يصف مجد بيروت بتفاصيلها ويقارنها بحيفا وتفاصيلها، تلك التفاصيل التي يعرفها فقط من يعيش البلد ويمشي فيها. ولعل هذا أكثر ما يرعب السلطات الاسرائيليّة، أن يتحول العالم العربي حولنا من حلم على رف، الى مضمون نناقشه، نعيشه ونقارن به، الى جزء من تفكيرنا اليومي.


*خلال مظاهرة ضد مخطط برافر (٢٠١٣)