19‏/08‏/2018

جغرافية الذاكرة

"لا أعرف كيف مرت تلك السنوات عليّ، أشعر أنّ قطعا كاملة منها سقطت خارج ذاكرتي من دون أن أنتبه: كأنها وقعت في الضباب الكثيف، وأنا بينما أسير الى أمام وأحاول أن ألف وأرى أين وقعت، أنا بينما أحاول أن أظلّ موجودًا، فقدت تلك القطع، ولعل هذا هو كل ما أقدر عليه. الان اذا سألتني ما الحقيقي وما المزوّر من ذكرياتي، أشعر بالخوف: أخاف الاّ أميّز، أخاف أن أضيع بين شخصين". (من رواية الاعترافات، صفحة 99)

الاعترافات (2009) لربيع جابر، رواية أخرى عن الحرب الأهلية في لبنان، ولكنها أيضا نص عن الذكريات. عن العيش مع الذكريات وعدمهم وذكريات الاخرين ونسيانهم. يحاور ربيع من سميّ بمارون والذي يسرد علينا ذكرياته فقط لان ربيع سأله عنهم، فهو. - لم يعد يكترث. أحقا لم يعد يكترث؟ هل حقا يمكن أن تصبح ذكرياتنا مفصولة عنا؟ يسرد مارون قصته وفق منطق الذكريات، فهي ترتبط الواحدة بالأخرى بطرق خاصة بها، أحيانا حسب المكان وأحيانا حسب الرائحة أو الطعمة وفي أحيانا أخرى السبب ليس واضح، ولكن هناك منطق ما، نفهمه دون معرفة السبب. يردد مارون التشكيك بوصفه للأمور، فهو ليس متأكد "ما الحقيقي وما المزوّر" ولكنه يتعلم أن يتقبل الضباب الكثيف. ولعل هذه احدى الأوجه المربكة والمزعجة في شخصية مارون، تقبله لان تكون الذكريات قصص ليست أكيدة، وليست قصته هو ووجعه هو. لكن قد يكون هذا التقبل طريقته الوحيدة لأن يخلّص نفسه وأن "يظل موجود". 

تشابكت قرائتي للرواية مع ما كتبه الصديق القديم والتر بنجامين عن الذكريات والحفر*. في احدى نصوصه والتي نشرت بعد موته، يدعي بنجامين أنه كما "وضّحت اللغة فان الذاكرة ليست أداة لاستكشاف الماضي، وإنما هي وسيط. انها الوسيط الذي يتمتع بالخبرة ، تماماً مثل الأرض التي تدفن فيها المدن القديمة". يشبّه بنجامين النظر في الذكريات كالبحث والحفر في طبقات الأرض، ويستنتج أن: "الرجل الذي يقوم فقط بجرد استنتاجاته [من الحفر]، بينما يفشل في تحديد الموقع الدقيق لمكان وجود الكنوز القديمة في أرضنا اليوم، يخدع نفسه بأثمن جائزة تخصه. أي بخصوص الذكريات الأصليّة، أهم من أن يبلّغ الباحث عن وجودهم، أن يقوم بتحديد مكانتهم، وعلى وجه التحديد، الموقع الذي حاز عليهم فيه". أما بخصوص ما تقدمه لنا "الذاكرة الحقيقيّة"، يقول بأنها: "تسفر عن صورة الشخص الذي يتذكر، بنفس الطريقة التي لا يطلعنا بها التقرير الأثري الجيد فقط عن الطبقات التي نشأت فيها النتائج، بل إنه يقدم أيضًا تقريرًا حول الطبقات التي كان لا بد في البداية خرقها."

قد تكون الاستنتاجات وتحديد مكانة ذكريات مارون في أرض الحاضر دور القارئ. أما في واقعنا اليوم، ذات الايقاع العصبي والسريع، قد تكون الرواية أيضا تمرين أو تجربة تعرض أمامنا لخوض الحفر في الذاكرة الذاتيّة والجماعيّة، لنحدد خريطة الذكريات والتجارب، فهم منطقها والطبقات الكثيرة التي لا بد من أن نخترقها لنصل اليها. ولعلّها تبدد الضباب بعض الشيء. 



*Benjamin, W. (1996). Selected Writings. Vol. 2. Eds. Marcus Bullock and Michael W. Jennings. Cambridge, Mass: Belknap P2003.


26‏/08‏/2017

سوزان مرة أخرى

سوزان، نينا سيمون
تطاردني أغنية سوزان بصوت نينا منذ فترة طويلة، وفي كل مرة يفرض علي صوت نينا أن أصغي للكلمات ونبرة الغناء والمشهد الذي تكونه امامي وكأنها المرة الأولى. سوزان، صديقة نينا أو نينا ذاتها تظهر كشخصيّة حقيقيّة، مألوفة، أكاد أعرفها، أكاد أتذكرها. نبرة نينا، تعطي كلمات ليناردو كوهن معاني إضافيّة، فالمونولوج عند كاسر الأمواج والأجوبة الغير محكيّة وتفاصيل حياة سوزان، تجعل الأغنية قريبة من أغاني نينا كـ"أربعة نساء" - فنينا التي ترسم البورتريه لنساء حقيقيّة، إستعارت سوزان لتقدم شخصيّة أخرى متهمة بالجنون.

سوزان، ليناردو كوهن
هذه السوزان مختلفة، صوت ليناردو المنتظم، دون موجات نينا وإنكسارهن يجعل من المشهد المتحرك رسمة متجمدة. يقدم ليناردو كل جملة على حدة، مع بداية ونهاية واضحة. صوته الرجولي لتفاصيل حياة سوزان تجعله يسرد الأغنية كمشاهد، كشخص آخر، ذات وجود مؤقت. أما نبرته حزينة وبعيدة، لعلّه كان يعلم بما سيأتي. في مقابلات أجريتها سوزان فيردال (التي كُتب عنها الأغنية)، تبوح حول كون الأغنية نقطة وداع، وبداية إبتعاد ليناردو. في المقابلات، تجيب سوزان على الأغنية بالواقع البعيد عن الروح الشبابيّة وسحر السفر والأطعمة والشموع. في واقعها، وبعد عقود عن الأغنية، تخسر سوزان بيتها وتعيش في شاحنة متنقلة، وليناردو الذي تحول الى شخصيّة معروفة وغنيّة، يختار ألّا يقترب، أن يبقى بعيدا ويغني لسوزان الشابة.


13‏/11‏/2016

انهما الحب والقمامة


بعد قراءة "لا قديسون ولا ملائكة" للكاتب التشيكي ايفان كليما قبل عامين، قرأت الأسبوع روايته "حب وقمامة"  ذات الأحداث الأقل درامية والسرد الطويل حول تفاصيل مأزق الشخصية الرئيسية، والتي لا تقل جمالا عن الرواية الاولى. تتناول الرواية "حب وقمامة" حياة ذات ماضي حافل بالمآسي التاريخية الكبرى، وحاضر حافل بمآسي أكثر متعارف عليها: الموت العادي، عمل لا يمت بالبطل بصلة وحب مستحيل. ترافق هذه الحياة اهتمام الشخصية الرئيسيّة بمصير القمامة ومجازة النظافة، بكتابات وحياة الكاتب كافكا وبماذا يحل بالروح بعد فناء الجسد. لعل هذه الاهتمامات ما يميز البطل عن الباقي وما يبقيه "فردا" حيا، الا انه ورغم ماضيه واهتماماته لا ينجح بالفرار من مآسي العالم الحديث - الخوف من الوحدة، رقابة السلطة، الشعور بالعجز وانهيار العلاقات الشخصية. بينما يبدو وكأنه خامل ولديه الخيار بالنجو وانقاذ من حوله، كما كانت تقول له حبيبته - الا ينسى روحها، فهي عصفور يمسكه في يديه، ليس هناك حقا خيارات له لا تكمن خسارة روحه فيبقى عليه اختيار احدى الوقائع السوداء.
للشخصية الرئيسية دورين في ان واحد، من ناحية فالرجل ليس سوى متفرج على العالم، ناقد للصحافة والمجتمع الحديث وللشخصيات القلقة من حوله وفي ذات الاوان فهو متورط بتفكيره وحبه. فبينما في طفولته، قرب غرف الغاز، نجح من جعل الكتابة تضاهي ضوء الحرية، يفشل في حاضره أن يجد أي بقعة أمان بعيدة عن الواقع أو أمل بواقع اخر. من حيث الكتابة يقدم الكاتب وصف رومانسي لحياة الفقراء والمساكين، وفي ذات الاوان يرسم صورة واقعية سوداوية للعالم والمجتمع الحديث. كما ويسرد الكاتب الأحداث من خلال التلاعب في الزمن والزمانية، فيتقلب الزمن بين الماضي والحاضر بكثرة ويتغير نمط الزمانية المعروض وفقا لمزاج الاحداث. حيث ان هناك الزمانية المتعارف عليها، والتي عبارة عن حاضر يتراكم دون خلق أي توتر أو قيمة وهناك الزمانية التاريخية والتي تجعل حاضر البطل نتيجة لتراكمات وقرارات من الماضي، مما يجعل من شخصيته أسيرة للذكريات ولحياة مضت. وفقا لهايدجر، نتيجة الزمانية الاولى قد تكون الضجر، وأما نتيجة الزمانية الثانية، وفقا لدوليز فهي الاكتئاب وعدم القدرة على "رسم الوعود" للمستقبل.
رغم كل هذا، هناك صيرورة علاجيّة في الرواية، نهاية ما، وداع يكمن استقرار واقعي، تقبل لعدم السعادة. لعل كليما يفشي لنا أنه علينا أن نرى القمامة وبذات الأوان أن نعي انها لن تفنى، ولعله نجح بتطبيق فكرة كافكا والتي قدستها الشخصية الرئيسية في الرواية: "نحتاج كتابا ... تجعلنا نحس بشيء يشبه الانتحار. يجب أن يكون الكتاب مثل فأس تضرب المتجمد في داخلنا".

11‏/04‏/2016

الحزن الباشق

 


الباشق \ طه محمد علي
نيسان 1984
 
 
اذا استطعت يا حزن 
يوما
ان اتحرر منك
فاني ساشعر
حتما،
بغبطة المنتحر
وهو يتحرر من تبعاتة
وافترض
انني انطلقت منك
فجأة،
انطلاق اسراب الصدى
من حقولنا وجماجمنا
فما الذي سيحدث؟
ما الذي يحدث
لو تمكنت من التخلي عنك
الان؟
هبني خرجت منك
في هذه اللحظة
خروج السكير
من الحانة
فما الذي سأخسره؟
يكفيني انني لن احزن
بعد:
لن أحزن حين يأتي الشتاء
ولن أحزن حين يذهب الشتاء
لن  أحزن عندما يجيء الصيف
ولن أحزن عندما يرحل الصيف
لن يحزنني تشرد الأنهر
ولن تحزنني غربة الطيور.
حتى الأزهار
نفسها
لن تثير بي
لا الوانا مبهمة من الأسى
ولا صنوفا غامضة من الحزن
 
ايتها الطيور
ايتها الأزهار
وانت يا نهر
بعد ان يتخلى حزني عنكم
لن تكون الأنهر انهرا
ولا الطيورا طيورا
حتى الأزهار
ذاتها
ستكف عن ان تكون ازهارا
سيمسي النهر
دون حزني
مجرد ماء
والزهر سيمسي
محض نبت
دون أساي
الطير بعدي
سيدركها الليل
وتموت
والطيور التي ستبقى
بعد حنيني
وخلف وحدتي:
بوما هنا،
واغربة هناك،
هي ليست طيورا
ولا هي عصافير
إذ...ما الطير
بلا ذكرياتي؟
ما الطير بلا شوقي
وما الصداح؟
ما الطير خارج حرقتي؟
العصافير بلا حزني
غابة مناقير
وأجمة مخالب
العصافير بلا حزني
كتل دموية
لا يظلها ريش
إلا
لتلاحقها الافاعي
ولا يكسوها زغب
هش، رقيق
كغلالة الرمال
إلا
لا غواء البزاة
واجتذاب الصيادين
 
ومع ذلك
فالذي يتراءى لي
انني فعلا
سأتخلص منك
سأتخلص عنك اخيرا
وارتاح
أتخلى عنك
لأول مرة.
ساغادرك
كما يغادر القرصان قاربه
لكنني لن أدفنك
في رمال الشاطئ
كما يدفن لصوص البحر
نقودهم واقراطهم
لتنهبك الثعالب
فانا لن أعود اليك
 
ولكن
بربك ايها الحزن
قبل ان نفترق
لي عندك رجاء
قبل ان ترحل
كمن رحلوا
لي لديك طلب
فانا أخشى الا ارك
بعد ان أودعك
انا في الوداع 
أعجوبة
انا لم اودع شيئا
من اشياء الدنيا
الا فقدته
الى الأبد
ولم امدد يدي
بالوداع لمخلوق
إلا تمنيت
عبثا
الا اموت قبل ان أراه
 
أريدك يا حزن
ان تكشف لي عن امر
يحيرني
لن اسألك
كيف قبض لك 
ان تذبحني
على هذا النحو
لن اسألك
ما الغاية
من جعلي هكذا:
انهار كالممالك
واتصدع كجدران البراكين
لن اطلب اليك
ان تفسر لي هدفك
من جعلي هكذا
اتبدد كالسحب
واتساقط
كملامح النسور
أمور كهذه
لا شك تعنيني
لكنني أدمنتها
فلأدعها الان تغفو
مثلما يغفو الخوف
احيانا
وكما تغفو البذور
 
أنا ايضا
لن اسألك
من اين جئت
ولا كيف تهيأت لي،
او اين وجهتك
فقد تعقبتك
مرارا
وانت غافل
كقصاص بدوي
تتبعت خطاك
فقدتني دوما
الى هناك
الى المكان نفسه
الى الزمان ذاته
والى الينابيع إياها

أنا حتى
لن اسألك
متى
اين
او كيف بدأت
تستقر على راحتي
هكذا
باشقا اليفا
ذاكرته مموجة
كبكاء البحارة،
جناحاه
في الليل
خنجران ازرقانو
عيناه حبيبان
وجفناه زنادان اخضران
يتوسلان

ما يحيرني 
يا حزني
انك أكبر مني
اعمق من يقظتي
واكثر بعدا
من كل احلامي
بصماتك اشد تعقيدا
من هويتي
ووجهك صحاري
فضفاضة
يضيق بها الدرب
وتلفظها المواني
ما يحيرني
انك اكبر من يومي
اكبر من امسي
واكبر من غدي

في طفولتي
يا حزن
رأيت عصفورا
تطارده افعى
العصفور كان فعيدا
خلفه السرب
والخوف الذي شاهدته
يتفجر في عينيه
وهو يحاول الفرار،
لا يمكنني ان انساه:
غابات  واقمار وبحيرات،
مناف،  جداول،
ومروج لا يحدها البصر
كلها كانت
تتكدس على عنقه وتنهار
بسرعة البرق
من شدة الهلع
مذابح ومدن
كانت تتجمع في نظراته
بسرعة مذهلة
وهناك تحترق رعبا
وتتناثر على ريشه
وصوته وقدميه
هلع ذاك العصفور
لا يمكن ان يكون
هلعه لوحده
خوف ذاك العصفور
لا يمكن ان يكون
خوف عصفور واحد
يا حزن،
لا يفهم الا ان يكون
خوف السرب
بأكمله

يحيرني يا حزن
انك في معظم الاحيان
تختلط علي
فلا اعرفك
فلكم انكرتك
لكم تنازعتني فيك الشكوك
ساعة تصطف الامسيات
والطيور والاشجار
في طوابير بعيدة
تحاذي الأفق
كل ينتظر حظه منك
انتظار المنكوبين للعون
ايام الكوارث
لكم انكرتك
وانا اتصفح اثرك
حائرا بك
مترددا بأممرك
اقلب بقايا عشك
كما تقلب بقايا المخطوطات
أأنت حزني الشخصي
أأنت حقا
حزن شخص واحد
أيعقل انك حزني لوحدي
وانا لا أفهك
الا ان تكون حزنا سريا
خبأه السرب عندي
أبمقدوري ان افارقك
وانا لا ادركك
الا ان تكون حزنا مطاردا
تتعقبه الحنش
وتتربص به الحراب
أأستطيع أن اتخلى عنك
وانا لا اعيك
الا ان تكون حزنا ممنوعا
اودعه الجيل لدي
أوصاني به
وأتمنني عليه

أغلب الظن
يا حزن
أنك لست حزني لوحدي
وما دمت حزني وحزنهم
فكيف يمكنني
أن اتصرف بك
لوحدي؟
(كيف يمكنني أن أتخلى عنك؟)